جنوب أفريقيا تقاضي إسرائيل بتهمة الإبادة- حقائق وتداعيات وتوقعات

المؤلف: د. محمود الحنفي11.21.2025
جنوب أفريقيا تقاضي إسرائيل بتهمة الإبادة- حقائق وتداعيات وتوقعات

في تطور بالغ الأهمية، تقدمت جمهورية جنوب أفريقيا بطلب رسمي إلى محكمة العدل الدولية، يوم الجمعة الموافق 29 ديسمبر/كانون الأول 2023، مطالبة بإصدار أمر طارئ. يهدف هذا الأمر إلى إعلان أن إسرائيل، من خلال أفعالها، تنتهك التزاماتها الجوهرية المنصوص عليها في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948. وقد تجاوبت المحكمة مع هذا الطلب الملّح، مستندة في ذلك إلى صلاحياتها القانونية الراسخة، وقامت بتحديد موعد لجلسات استماع خاصة للنظر في هذه القضية البالغة الحساسية. ستبدأ الجلسة الأولى يوم 11 يناير/كانون الثاني 2024، حيث ستقوم جنوب أفريقيا بتقديم مرافعاتها الشفوية المفصلة من الساعة العاشرة صباحًا وحتى الثانية عشرة ظهرًا. وفي المقابل، ستقوم إسرائيل بتقديم دفوعاتها الشفوية يوم الجمعة الموافق 12 يناير/كانون الثاني 2024، في نفس التوقيت. وجدير بالذكر أن كلًا من جنوب أفريقيا وإسرائيل تعتبران من الأطراف الموقعة على اتفاقية مناهضة الإبادة الجماعية لعام 1948، مما يضفي مزيدًا من الأهمية على هذه القضية.

وفي خطوة لافتة، أعلنت إسرائيل عن قرارها بالامتثال أمام محكمة العدل الدولية، وذلك للرد بشكل مباشر على الدعوى القضائية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدها. وقد نقلت وسائل إعلام إسرائيلية عن مصادر في هيئات أمنية وقانونية إسرائيلية، بما في ذلك النيابة العامة، عن وجود تخوفات جدية من أن تقوم محكمة العدل الدولية بتوجيه اتهامات لإسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة.

وتشتمل الدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا على طلب ملح من المحكمة الدولية بإصدار أوامر احترازية مؤقتة، تكون ملزمة قانونًا لإسرائيل، تقضي "بتعليق عملياتها العسكرية على الفور في غزة وضدها". ومن المتوقع أن تصدر المحكمة مثل هذه القرارات، إلا أنه في المقابل، قد تتجاهلها إسرائيل، مما يثير تساؤلات حول مدى فعالية هذه الإجراءات.

وفي سياق جهودها للدفاع عن نفسها في مواجهة طلب جنوب أفريقيا، قامت وزارة الخارجية الإسرائيلية بتنظيم حملة واسعة النطاق، حيث طلبت من سفرائها في مختلف الدول العمل على تشويه صورة جنوب أفريقيا، من خلال الادعاء بأنها تدعم منظمة إرهابية تسعى إلى تدمير دولة إسرائيل، وهي محاولة واضحة لتشتيت الانتباه وتقليل أهمية هذه القضية.

لقد عانت جنوب أفريقيا من تجربة مريرة وطويلة الأمد مع نظام الفصل العنصري، والذي استمر لمدة 46 عامًا، من عام 1948 إلى عام 1994. وقد انتهى هذا النظام البغيض بعد حملة مقاومة طويلة وشاقة قادتها حركة الحقوق المدنية. وبناءً على هذه التجربة، فإن جنوب أفريقيا تدرك تمامًا معنى أن يعيش الشعب الفلسطيني في غزة تحت وطأة نظام فصل عنصري ظالم.

وتركز الحملة الإسرائيلية أيضًا على توجيه طلب سياسي، وليس قانونيًا، إلى محكمة العدل الدولية، بالتحرك ضد إيران أو حركة حماس، بهدف إيجاد نوع من التوازن في عملها. وتأتي هذه الخطوة أيضًا في محاولة لإفراغ طلب جنوب أفريقيا من مضمونه القانونيّ الجوهري.

ويستند الطلب الذي تقدمت به جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية إلى ركنين أساسيين، وهما: أن إسرائيل لا تتخذ الإجراءات اللازمة لمنع التصريحات التي تدعو إلى الإبادة الجماعية، وأنها ترتكب بالفعل أعمالًا ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية. وقد تم دعم هذه الادعاءات بملف شامل يتكون من 84 صفحة، تم إعداد كل صفحة فيه بعناية فائقة.

وتثار في هذا السياق تساؤلات جوهرية، من بينها: لماذا تختار دولة جنوب أفريقيا خوض هذه المعركة القانونية الصعبة ضد إسرائيل بمفردها؟ وهل هناك أي إمكانية حقيقية لمحاسبة إسرائيل على الجرائم المنسوبة إليها؟ وما هو موقف الولايات المتحدة من هذه القضية؟ ولماذا لم تنضم أي دولة أخرى إلى جنوب أفريقيا في هذه الدعوى، بما في ذلك الدول العربية والإسلامية؟

للإجابة على هذه التساؤلات الهامة، يمكننا استعراض النقاط التالية:

  1. من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن جنوب أفريقيا دولة تقع على مسافة جغرافية بعيدة عن حدود إسرائيل، وهي تعتبر دولة صناعية ذات اقتصاد قوي، على الرغم من موقعها في القارة الأفريقية. وبالتالي، فإن جنوب أفريقيا ليست لديها مصلحة مباشرة في هذه القضية، على عكس ما قد يكون عليه الحال لو كانت الأردن أو مصر أو سوريا أو السلطة الفلسطينية هي التي رفعت هذه الدعوى. هذه المعطيات تعزز بشكل كبير مصداقية موقف جنوب أفريقيا.
  2. لقد عانت جنوب أفريقيا من تجربة مريرة وطويلة الأمد مع نظام الفصل العنصري، والذي استمر لمدة 46 عامًا، من عام 1948 إلى عام 1994. وقد انتهى هذا النظام البغيض بعد حملة مقاومة طويلة وشاقة قادتها حركة الحقوق المدنية. وبناءً على هذه التجربة، فإن جنوب أفريقيا تدرك تمامًا معنى أن يعيش الشعب الفلسطيني في غزة تحت وطأة نظام فصل عنصري وحصار غير قانوني وجرائم حرب متواصلة. وهي تعرب عن تضامنها الأخلاقي الكامل مع نضال الشعب الفلسطيني من أجل تقرير مصيره.
  3. إن الجرائم التي يرتكبها الاحتلال في غزة موصوفة بشكل دقيق وشامل، وتشمل: جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم إبادة. بالإضافة إلى ذلك، فإن التصريحات التي صدرت عن مسؤولين إسرائيليين، والتي سبقت ورافقت الحرب على غزة، كانت واضحة جدًا، وقد ساهمت في تهيئة الظروف لارتكاب هذه الجرائم، وتشكل ركن النية اللازم لارتكاب جريمة الإبادة. وعندما قامت جنوب أفريقيا بإعداد هذا الملف، فإنها فعلت ذلك بهدف تحقيق إنجاز حقيقي في ملاحقة ومحاسبة قادة الاحتلال كهدف مباشر، وأيضًا لوضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته كهدف غير مباشر. (يذكر أن عدد الدول الأطراف في هذه الاتفاقية يبلغ 153 دولة).
  4. إن الدافع وراء اللجوء إلى محكمة العدل الدولية هو الرفض، أو التقاعس، من جانب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، السيد كريم خان، عن إدانة إسرائيل، وإصدار مذكرات توقيف بحق قادة إسرائيليين، على عكس ما فعله مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في فترة زمنية قياسية.
  5. إن نزاهة وجدية القضاة في محكمة العدل الدولية أمر مشهود به، وهم يعملون بأعلى مستويات المهنية، حتى وإن كان من بينهم قاضٍ أميركي. فقد سبق لهذه المحكمة أن أدانت إسرائيل، من خلال الرأي الاستشاري، في قضية جدار الفصل العنصري عام 2004، وأكدت أن جدار الفصل العنصري يهدف إلى الدفاع عن الاحتلال وليس الدفاع عن النفس، وذلك على الرغم من كل محاولات التشويش والصراخ التي قامت بها إسرائيل في ذلك الوقت.
  6. من المتوقع أن تطلب محكمة العدل الدولية من إسرائيل وقف الحرب على غزة مع بدء جلسات المحاكمة. وإذا رفضت إسرائيل الامتثال لهذا الطلب، فإن المحكمة ستحيل الأمر إلى مجلس الأمن الدولي. وهنا يثور التساؤل: هل ستستخدم الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو)؟ سيكون هذا الأمر محرجًا للغاية، وسيشكل لها إرباكًا غير مسبوق، فكيف لها أن ترفض طلبًا صادرًا عن هيئة أساسية من هيئات الأمم المتحدة؟ (محكمة العدل الدولية هي نتاج لميثاق الأمم المتحدة نفسه). وهل ستفعل الولايات المتحدة كما فعلت عندما أفشلت قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بهذا الخصوص؟
  7. من المؤكد أن الإجراءات القانونية ستكون شاقة وقد تستغرق وقتًا طويلاً، وهذا أمر متوقع في المحاكمات الدولية. ومع ذلك، فإن الحكم الذي سيصدر عن محكمة العدل الدولية سيشكل ضغطًا كبيرًا على المحكمة الجنائية الدولية، مما قد يدفعها إلى تسريع إجراءات التحقيق وإصدار مذكرات توقيف بحق قادة إسرائيليين.

لماذا لم تنضم أية دولة إلى جنوب أفريقيا بما فيها الدول العربية والإسلامية؟

تخوض دولة جنوب أفريقيا هذه المعركة القانونية المصيرية ضد إسرائيل بمفردها، ولكنها تفعل ذلك بثقة راسخة بالنفس، واستنادًا إلى أدلة قاطعة ودامغة على ارتكاب جرائم إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة. ولم تنضم حتى الآن أي دولة عربية أو إسلامية إلى جنوب أفريقيا في هذه الدعوى، حتى من بين تلك الدول التي تعتبر أطرافًا في اتفاقية مناهضة الإبادة الجماعية.

ومع ذلك، فإن المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان العالمية والإقليمية، وكذلك المنظمات الوطنية (الفلسطينية على وجه الخصوص)، تقف بقوة إلى جانب دولة جنوب أفريقيا، وتقدم لها الدعم الكامل من خلال توفير جميع الوثائق والبيانات المطلوبة.

من الواضح أن الضغوط الأميركية الهائلة قد أثمرت حتى الآن في منع أي دولة من مساندة دولة جنوب أفريقيا. ولكن الأمل لا يزال معقودًا على جهود جنوب أفريقيا الحثيثة، وعلى نزاهة وجدية قضاة محكمة العدل الدولية، وما سيصدر عنهم من قرارات، الأمر الذي قد يشجع بعض الدول على الانضمام إلى هذه المعركة العادلة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة